
الاهابة بعدم القيام بشعيرة العيد.. حتى لا يضحي الأبناء بأبائهم

بقلم: الدكتور العياشي الفرفار – استاذ جامعي ونائب برلماني
دون الخوض في تفاصيل الدعوة الملكية الاهابة بالشعب المغربي عدم القيام بشعيرة اضحية العيد لهذه السنة، فمقاصدها واضحة، وسياقات الدعوة اليها متضمنة في نص الرسالة الملكية.
قيمة الدين هي تبسيط التدين ورفع الحرج ومراعاة ظروف الناس، والاجتهاد في قراءة الواقع وفق فقه المقاصد.
جلالة الملك ادرك خطورة الجفاف، واثره على ضمان استمرارية القطيع ، وأن اقامة العيد في هذا السياق الصعب لا ينفع المواطن البسيط بقدر ما يضره، ولا ينفع الكساب البسيط، ولا التاجر البسيط، بالمقابل سيكون فرصة للربح السريع، عبر تحويله الى صفقة لشراء الخروف الاسباني والروماني والاسترالي.
القرار الملكي مبني على فقه الواقع، والانتصار للواقع واستحضار اكرهات الواقع. الاهابة الملكية لا تعني المنع لكنها توجيه ودعوة لرفع الحرج وحماية الاقتصاد ومصالح الناس، وتقدير اوضاعهم.
اقامة الشعيرة في زمن الجفاف ستشكل تهديد ا للقطيع و نا ينتج عنه من ارتفاع اثمان اللحوم طيلة السنة، وهذا ضرر بالغ بكل مواطن محدود الدخل تفاديه هو منفعة ودرء مفسدة.
قرار ايجابي لانه منع ان يصبح العيد صفقة للاستيراد، والاغتناء على حساب البسطاء.
في سياقات العيد تصبح الوجوه متعبة، حالة من التعب العام تسري بكل مسارات الحياة الاجتماعية خلال الايام التي تسبق العيد، وحتى تلك التي تأتي بعد العيد، اينما حللت لا شئ غير الوجوه المنهكة في الشارع، بالمقهي، في الازقة، في الساحات، امام الابناك، امام الادرات، امام المساجد وفي الاسواق.
السوق لا يرحم، العيد فقد طابعه الديني وتحول الى ظاهرة اجتماعية قاسية، الاطفال لا يحتاجون الى تبرير او شرح لظروف الاب ومحنته، وانما هدف واحد: كبش املح اقرن يصلح لانجاز سيلفي للتباهي !
سياقات العيد تتحول الى تعب جماعي، اغلب الميسورين يغلقون هواتفهم تفاديا للاحراج، المانح في شدة والممنوح في شدة والفلاح في شدة والواقع ضاغط والاطفال لا يفكرون في معادلات الواقع، وفي تعقيداته وانما في كبش والكثير من الصور والسيلفيات.
كل الاطراف تعيش وضعا مازوما، وعيد الاضحى فقد دلالالته الدينية وابعادة الروحانية، وتحول الى فعل اجتماعي قهري وقسري وبتكلفة مالية كبيرة.
اختفت كل القيم المرتبطة بعيد الاضحى؛ فأصبحنا نعيش قيما عكسية لقيم عيد الاضحى كما جسدها نبي الله ابراهيم والتضحية بابنه كفعل قرباني حيث الابن قربان لله.
في ازمنة العيش تنتعش السرقات ويكثر التسول ويتم استغلال الاطفال في ذلك، بشوارعنا وازقتنا ومقاهينا وساحاتنا العمومية مشاهد تؤدي العين، التضحية بكرامة الاطفال من اجل شراء كبش، الذي يصبح في نهاية المطاف مجرد عشرين كيلو غرام من اللحم، والكثير من النفايات بما في ذلك جلود ا كانت في القديم تتحول الى هيدورة تزين البيت وتقام فوقها الصلوات !
ما وقع وما يقع يكشف انقلابا مؤلما في قيم العيد و ابعاده، جوهر العيد انه درس ايماني لكشف حقيقة الايمان الشخصي المؤسس على فعل قرباني، ان العبد لا يكتمل ايمانه الا اذا ضحى باثمن وباعز ما يملك. هنا نستحضر كيف ان نبي الله ابراهيم ودون تفكير قرر التضحية بابنه اسماعيل، وكيف قبل الابن بقرار الاب دون تردد، لنكون امام فعل ايماني صادق.
الايمان يحتاج الى تجربة اثبات، والى تمرين قاسي يشكل ابتلاءا وهو جوهر قصة نبي الله ابراهيم مع ابنه ابراهيم، كيف يقبل ابراهيم ان يضحي بابنه الوحيد والذي طالما طلب الله ان يرزقه اياه. وكيف يقبل ودون اعتراض ان يضحي بفلذة كبده، والذي لأجله عاتب الملائكة على تأخرهم بالبشارة، لانه قارب على الشيخوخة وقد لا ينجب مرة اخرى.
(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ) فكان جواب الابن اسماعيل : (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
اليوم ما يقع هو فعل معكوس للتجربة الابراهيمية، حين ضحى ابراهيم بابنه تقربا وطاعة لله دون تردد او ضجر فكانت المكافاة ان الله فداه بذبح عظيم .
اليوم نعيش تضحية مقلوبة ومزدوجة، بعض الاباء يضحون بابنائهم ليس تقربا وقربانا لله، ولكن اهدارا لكرامتهم بتحويلهم الى ادوات فعالة للتسول .
وفي الاتجاه المعاكس الكثير من الابناء يضحون بابائهم، ليس بدافع ديني لكن بدوافع اجتماعية لا علاقة لها بالدين وبقيم الدين، وانما اشباعا لرغبات صنعها اقتصاد السوق .
جلالة الملك يهيب بالشعب المغربي أن يحيي عيد الأضحى إن شاء الله وفق طقوسه المعتادة ومعانيه الروحانية النبيلة وما يرتبط به من صلاة العيد في المصليات والمساجد وإنفاق الصدقات وصلة الرحم، وكذا كل مظاهر التبريك والشكر لله على نعمه مع طلب الأجر والثواب. وهو تحرير لشريعة روحانية جوهرها قائم على ان الطريق الى الله يكون بالتضحية باغلى ما يملك الانسان / القربان و ليس التمسك بقيم صنعتها العولمة و مجتمع الاستهلاك والتباهي .
الدين في جوهره هو القدرة على مقاومة الجسد واغراءاته، مما يعني ممارسة فعل الصيام، وتوظيف الامساك كسلاح مضاد لقيم العولمة، التي استطاعت نقل منطق السوق إلى المجال الديني وترسيخ سلوك تديني مبني على الاستهلاك الشره.
أسوا ما انتجت العولمة ديكتاتورية السوق وتقديس الاستهلاك، والنتيجة ان يفقد عيد الاضحى قداسته وقيمه السامية، باعتباره لحظة للتفكير في جوهر الدين باعتباره تضحية وليس مجرد اضحية.
واسوأ الاسواق هو السوق السوداء حين يصبح الجشع هو قانون السوق كما وقع مع السردين .
العولمة جعلت المؤمن زبونا، وتصر على ان تقدم له أحسن الخدمات وأسرعها، والهدف ان يكون راضيا مرتاحا في كسله العقائدي دون تفكير، حتى لا يستطيع الفعل الايجابي من اجل التعامل مع واقع صعب.
ان التدين الشعبي هو ثمرة منتوج الصمت والقبول الساذج دون أي نقاش او تحليل، لكن مع فورة الثورة الرقمية وتوفير مساحات للحرية والانفلات من الواقع، اصبح النقاش في امور الدين متاحا حتى لمن يعيش جهلا مقدسا بتعبير روا، لعل حجم التدوينات التي تعاملت مع القرار الاهابة بالكثير من السخرية من الفلاحين والتشفي فيهم يكشف حجم الاعطاب ان يصبح النقاش متاحا للجميع.
