الدكتور العياشي الفرفار يكتب: المسيرة الخضراء وفوز ترامب.
د. العياشي الفرفار – استاذ جامعي
الإحتفال بالذكرى 49 بالمسيرة الخضراء، ليس احتفالا بحدث عادي، وإنما هو احتفال بحدث أذهل العالم: تحرير الأرض دون قطر دم واحدة.
الاحتفال هذه السنة يأتي في سياق النجاحات المغربية المتعددة الأبعاد والمستويات: الاعتراف الأممي بواقعية الطرح المغربي في مشروع الحكم الذاتي والفرح المغربي الذي يتمدد.
إلا أن الاحتفال السنوي بالذكرى 49 هو تأكيد على أن مسلسل المسيرة الخضراء مازال مستمرا، لأن تحرير الأرض لا يعني شيئا، اذا لم تكن هناك رعاية واهتمام بالإنسان وتوفير شروط الحياة الامنة والكريمة.
نتذكر أن الخطاب الملكي في الذكرى 46 كشف أن قضية الصحراء مثل الحقيقة لا تحمل إلا وجها واحدا. وأن الصحراء مغربية ولا تفاوض حولها، وإنما التفاوض حول حل سلمي لهذه الأزمة المفتعلة. وان الصحراء المغربية هي النظارات التي ينظر بها المغرب للعالم وهي رسالة متعددة الأبعاد.
وأهم مداخل الحل تكون عبر التنمية والديموقراطية، وهو ما نلمسه بوضوح من خلال البنيات التحتية، حيث أصبحت الصحراء منخرطة في الزمن المغربي بكل تفاصيله، وبكل بساطة قد تتناول فطورك في الرباط ووجبة الغذاء بالصحراء.
ولأن المناسبة شرط، والاحتفال بذكرى المسيرة الخضراء يكون باستعادة الحدث واستعادة دلالاته، سيكون من المفيد إعادة قراءة حدث المسيرة الخضراء كحدث ملهم.
حسب المفكر المغربي عبد الله العروي “المسيرة الخضراء لم تكن فقط حدثا سياسيا، كانت شيئا آخر. ماذا إذن؟ ليس سهلا إيجاد الوصف المناسب…”. بلاشك العروي على حق حين أصيب بحالة من عدم القدرة على الإمساك بطبيعة المفهوم / الحدث الاستثنائي في طبيعته ونتائجه.
التوقف عند دلالة موقف المفكر المغربي عبدالله العروي لا يعني تبرير عدم التفكير في الموضوع، ورفع اليد استنادا أن مفكرا من قيمة العروي أعلن صعوبة الإحاطة والإمساك بالمفهوم، نظرا لكثافة دلالات الحدث وتعقيداته، لدرجة أن ممثل إسبانيا بمجلس الأمن – والذي انعقد خصيصا للحدث بدعوة من الاتحاد السوفياتي للبحث في آليات لإيقاف الحدث او على الأقل تأخيره – صرح أن ما يقوم به المغرب نوع من الجنون.
بلا شك هو جنون مغربي بمثابة إبداع، أن تحرر أرضا بدون قطرة دم فتلك معادلة استثنائية، تحقيقها أمر في غاية التعقيد. وعنوان الصعوبة أن تحافظ على الأرض والإنسان معا، وتكلفة تحرير أرض دون أن تضحي بمواطن واحد، دون أن تسيل قطرة دم واحدة، فالمسيرة الخضراء كانت دفاعا عن الأرض والإنسان معا.
350 ألف مغربي ومغربية تطوعوا واختاروا الموت حبا وطواعية، لتمنح لهم الحياة والاستقلال.
التوقف عن الحدث دون ادعاء الإحاطة به هو تأمل الشخصي في موضوع كان حدثا عظيما، ومايزال يشكل خارطة طريق لترسيخ ثقافة اللاعنف كقوة وكأسلوب لتدبير النزاعات في زمن ملئ بالدماء، أو لنقل في وقت أصبحت السياسة تكتب بالدماء، فالحاجة إلى استعادة رمزية المسيرة الخضراء، ليس كحدث وطني فقط ولكن كحدث عالمي يذكرنا بسلمية غاندي من حرر الهند ان تطلق رصاصة واحدة، والرصاصة التي اطلقت قتلته من هندوسي متعصب.
المسيرة الخضراء رسخت درسا ورؤية لطريقة إدارة الصراعات والتعامل مع الأزمات الدولية من حيث إعتماد سلاح اللاعنف، / أي تغليب الحلول السلمية لاسترجاع الحقوق وصيانتها، وهو ما يذكرنا بفلسفة غاندي كفلسفة تؤسس لمنطق الحوار والسلم ونبذ العنف، يمكن استحضار في هذا السياق مسيرة الملح التي قطع فيها غاندي مئات الكيلومترات مشيًا على الأقدام مئات، مستنفرًا الفلاحين للعصيان المدني، فيما عُرِفَ بـ”مسيرة الملح”؛ وهو ما أدى لاحقًا إلى اعتقال غاندي، واعتُقِلَ معه الآلآف من أبناء الشعب الهندي، حتى فاضت السجون، ثم أُطلِقَ سراحُهم جميعًا.
غاندي كان يردد دائما أنا مستعد ان أقتل أي يموت ‘في سبيل قضيتي ولكن لن أقتل احدا من أجل قضيتي، معتبرا ان الإنتصار والفوز بالمعركة لا يكون بقتل الخصم ولكن بقتل الرغبة في القتل لدى النفس، وهو ما يؤكد ان الحرب الكبيرة والمهمة هي حرب لبناء الانسان، وأن السلم طاقة للتحرير وليس للهدم والفناء، فالحروب هي لغة العاجز والحاقد والخائف على مصالحه، وهي المناسبة الوحيدة التي يسمح فيها المستبدون والطغاة للشعوب بالمشاركة فيها حسب قولة الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون.
إنها فلسفة السلم واللاعنف باعتبارها الحل الانجح في التخلص من العنف والشر الإنساني. فالهدف من سياسة اللاعنف في رأي غاندي هي إبراز ظلم المحتل من جهة وتأليب الرأي العام على هذا الظلم من جهة ثانية، تمهيدا للقضاء عليه كلية أو على الأقل حصره والحيلولة دون تفشيه، لأن المعتدي لا يستطيع ان يحافظ على ما سلبه بالقوة إلا باستعمال القوة، مما يبين أن المحتل لا يكون ابدا مسالما لانه غير قادر على فعل ذلك.
هذا هو الدرس المستوحى من حدث المسيرة الخضراء، الطرف الإسباني المحتل اعتبر المسيرة الخضراء جنونا واعلان حرب رغم أنها مسيرة سلمية حيت رجال ونساء لا يحملون بنادق ولا قنابل, وانما يحملون قرآنا علما وطنيا.
اليوم الشعب المغربي مع جلالة الملك يحتفل بالذكرى الخمسين لحدث ملهم، شاءت الاقدار ان يتزامن هذا الاحتفال بانتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية وهو الرئيس الذي وقع على وثيقة الاعتراف الامريكي بمغربية الصحراء، وهو اعتراف تاريخي داعم للحق والشرعية.